سورة سبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {قُلْ إِنَّ ربي يَقْذِفُ بالحق} أي: بالوحي، فيرمي به على الباطل، من الكفر وشبهه، فيدمغه، أو: يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإسلام، أو: يلقيه وينزله إلى أنبيائه. والقذف: رمي السهم ونحوه بدفع واعتمادٍ، ويستعار لمطلق الإلقاء، ومنه: {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]. تمّ وصف الرب بقوله: {علاّمُ الغيوب} أي: هو علام الغيوب.
{قل جاء الحقُّ} أي: الإسلام: أو: القرآن، {وما يُبْدِىءُ الباطلُ وما يُعيدُ} أي: زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي، فعدمهما عين الهلاك، والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله: {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] قال الكواشي: المعنى: ذهب الباطل لمجيء الحق، فلم يبقَ له بقية حتى يبدىء شيئاً أو يعيده. ثم قال: وهذا مثلٌ، يقال: فلان لا يبدىء ولا يعيد، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي: الباطل: إبليس، ما يبدىء ولا يعيد: لا يخلق ولا يبعث، والله تعالى هو المبدىء المعيد، ومعناهما: الخالق الباعث. وقال في الصحاح: وفلان ما يبدىء وما يعيد، أي: ما يتكلم ببادية ولا عائدة، ومثله في القاموس.
والحاصل: أنه عبارة عن زهوق الباطل، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ يوم الفتح، وحول الكعبة أصنام، فجعل يطعنُها بعودٍ، فتقطع لقفاها، ويقول: «{جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] قل جاء الحق وما يُبدىءُ الباطلُ وما يُعيد».
ولما قالوا له صلى الله عليه وسلم: قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى: {قل إِن ضللتُ} عن الحق {فإِنما أَضلُّ على نفسي} فإن وبال ضلالي عليها، {وإِن اهتديتُ فبما يُوحي إِليّ ربي} أي: فبتسديده بالوحي إِليّ. وكان قياس المقابلة أن يقال: وإن اهتديتُ فإنما أهتدي لها، كقوله: {فَمِنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر: 41]، ولكن هما متقابلان معنًى؛ لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها، وما لها مما ينفعها، فهو بهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسولَه أن ينسبه إلى نفسه؛ تشريعاً لغيره؛ لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره؟. {إِنه سميع} لما أقوله لكم، {قريبٌ} مني ومنكم، فيجازيني ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
الإشارة: الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو: ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر:
فلم يبقَ إلا الله لم يبق كائن *** فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى *** بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفي القوت في تفسير الآية: أي: لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي: كشف ما يبدىء الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني: أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. اهـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه: {إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي..} الآية.


قلت: {مُرِيب}: اسم فاعل، من أراب، أي: أتى بريبة، وأربته: أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد: وصفه بالشدة والإظلام، بحيث إنه يوقع في شك آخر.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولو ترى} يا محمد، أو: يا مَن تصح منه الرؤية، الكفرةَ. {إِذ فَزِعُوا} حين فزعوا عند صيحة البعث، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، {فلا فَوْتَ} أي: لا مهرب لهم، أو: فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. {وأُخذوا} إلى النار {من مكان قريبٍ} من المحشر إلى قعر جنهم. أو: ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو: إذا فزعوا يوم بدر، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
{وقالوا} حين عاينوا العذاب: {آمنَّا به} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لمرور ذكره في قوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] أو: بالله، أو: بالقرآن المذكور في قوله: {فبما يُوحي إليَّ ربي} {وأَنَّى لهم التناوشُ} أي: التناول. من قرأه بالواو فوجهه: أنه مصدر: ناش، ينوش، نوشاً، أي: تناول، وهي لغة حجازية، ومنه: تناوش القوم في الحرب: إذا تدانوا، وتناول بعضهم بعضاً، أي: ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة، تُقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل: هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز: أنه مصدر: تناءش، بمعنى أبطأ، أو: بعُد، يقال: تناءشت الشيء: أخذته من بُعْدٍ. النئيش: الشيء البطيء، كما قال الشاعر:
وجئْتَ نئيشاً بَعْدَما فَاتَكَ الخير ***
أي: جئت بطيئاً. وقيل: الهمز بدل الواو، كالصائم، والقائم، وأقتت. والمعنى: ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
{وقد كفروا به من قبل} حصول العذاب، أو: قبل الموت في الدنيا، {ويُقْذَفُون بالغيب من مكان بعيدٍ} هو عطف على {كفروا} على حكاية الحال الماضية، أي: وقد كفروا في الدنيا، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار. {من مكان بعيد} عن الحق والصواب، أو: هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاعر، ساحر، كذاب، وهو رجم بالغيب؛ إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يعرفوه إلا بالصدق، والأمانة، ورجاحة العقل.
{وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون} من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النيران، والفوز بنعيم الجنان، أو بين الرد إلى الدنيا، كما حُكِيَ عنهم بقوله: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12] {كما فُعل بأشياعهم من قبلُ} أي: بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها. {إِنهم كانوا في شكٍّ} في أمر الرسول والبعث، {مُريب} موقع للريبة، أو: ذي ريبة، نعت به للمبالغة. وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك، قاله النسفي.
الإشارة: قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف بعد الموت عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا: آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري: إذا تابوا وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد:
سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا *** فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ
. اهـ.
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8